تقدير موقف

الانتخابات التركية في عين الإعلام الغربي …مهنية مفقودة أم رسائل مقصودة؟

إياد الدليمي/ مستشار مركز نطاق

نناقش في هذا الملف جملة من القضايا الإعلامية المتعلقة بالانتخابات التركية في جولتيها الأولى والثانية

هل كانت تغطية وسائل الإعلام الغربية لتلك الانتخابات منحازة فعلا؟

أم أن الأمر لا يعدو كونه سياقاً دأبت عليه تلك الوسائل الإعلامية في تعاطيها مع مختلف القضايا والملفات؟

هل ثمة رسائل سعت وسائل الإعلام الغربية لإيصالها عبر تغطية الانتخابات التركية؟

لماذا تم تسليط الضوء على انتخابات الرئاسة بينما أهمل الإعلام الغربي الانتخابات البرلمانية؟

مقدمة

لا يمكن لك أن تجد كتلة إعلامية موحّدة على موقف واحد، في كل الأحداث التي عرفها العالم، فمنذ أن بدأت الحروف بارتداء زي الموجّه والواعظ والسياسي والقائد، وهي تغفو على صفحات الورق الأصفر، فإنها لم تلتئم أو تجتمع على التعاطي مع الحدث ذات بالطريقة ذاتها، فكان الخلاف والاختلاف هو ما يميز تلك التغطيات الإعلامية.

ولاحقا بدأ هذا الخلاف والاختلاف في التعامل مع أي حدث، إنما ينبع من أجندات، بعضها معلن وبعضها الآخر مخفي، من أيدولوجيات، مصالح ، عقائد من كل شيء، الأمر الذي غالبا لا يُبقي للمهنية أو الموضوعية شيئاً، وهو ما بدأت تعاني منه وسائل الإعلام منذ تحولها إلى أوعية تفرغ فيها الشركات والدول مصالحها للتأثير في الرأي العام ، فلم تعد الصحف ووسائل الإعلام المختلفة تكتفي بنقل الخبر وإنما تحولت منذ أن أصبحت صناعة ومهنة، إلى أدوات للتأثير بالرأي العام، فكلما كانت أقدر على التأثير وصناعة رأي عام معين في قضية ما، كلما كانت أكثر شهرة  .

لا تخرج الانتخابات التركية التي جرت على جولتين بين الرابع عشر من مايو والثامن والعشرين منه 2023 عن هذه الكيفية التي بات يتعامل بها الإعلام مع مختلف القضايا، لكن الفارق الوحيد هنا، وربما للمرة الأولى، أن الإعلام الغربي الذي كثيرا ما كان يحظى بمتابعة القراء حول العالم بسبب ما يعتقده البعض من مصداقية كبيرة يتحلى بها، ربما لم يكن قادرا على أن يجمل نفسه ويتناول تلك الانتخابات بطريقة تبدو موضوعية وأكثر قدرة على الإقناع.

وعندما نتحدث عن الإعلام الغربي، فإننا هنا نشير إلى وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية، أما لماذا نضعها تحت مشرط الدراسة والبحث دون وسائل إعلام أخرى كانت هي الأخرى مهتمة بالانتخابات التركية ربما بدرجة أكبر، كوسائل الإعلام العربية، فإن سبب ذلك يعود إلى اعتقادنا بأن سقف حرية وسائل الإعلام الغربية ومهنيتها وموضوعيتها، كما نعتقد، تجعلنا نبحث في كيفية تعاطيها مع هذه الانتخابات التي شكلت حالة تستحق الدراسة.

لقد شرعت وسائل الإعلام الغربية مبكرا في تغطية الانتخابات التركية، وربما بعضها استبق حتى وسائل الإعلام التركية، الأمر الذي فجر سؤالا مبكرا عن سبب هذا التبكير في التغطية؟ فبعض وسائل الإعلام البريطانية بدأت مع بدايات العام 2023 في تناول الشأن التركي وتأثيرات الانتخابات على أوروبا، بعد ذلك بدأت وسائل الإعلام الألمانية بتناولٍ مبكرٍ لهذه الانتخابات ثم الفرنسية وهكذا.

لا يبدو أن الأمر كان صدفة، وأيضا قد لا يكون مخططا له في سياق نظرية المؤامرة التي يؤمن بها الكثير، ولكن حساسية هذه الانتخابات وما تعنيه لأوروبا وأمريكا، دفعت أقلام مفكريها وصحافييها إلى التعاطي معها مبكرا.

نعم قد يكون هذا سببا، وقد تكون هناك أسباب أخرى، من قبيل التأثير على الناخب التركي ومحاولة دفعه للتصويت لصالح خصم أردوغان، كمال كليشدار أوغلو، فالإعلام تأثير وصناعة رأي عام قبل أن يكون ناقلا للخبر، بعد أن كان ناقلا للخبر أولا ثم مؤثرا وصانعا للرأي العام تاليا.

عالم متغير متسارع تراكمت فيه عقود من الصراعات بعضها فك الاشتباك وبعضها الآخر مازال عالقا في عقود وربما قرون خلت من الاختلاف والخلاف، وهنا تكمن التفاصيل، حيث التاريخ.

من التاريخ

دائما ما يقال، إذا ما أردت أن تفهم الحاضر فعليك أولا أن تبدأ من الماضي، التاريخ، وتمتد تركيا في حاضر أوروبا ومستقبلها، كما كانت تمتد لقرون خلت في ماضيها، فالعلاقة بين تركيا والغرب تفسر في أحيان كثيرة هذا الاهتمام الغربي بتركيا، وأيضا الاهتمام التركي بأوروبا، فالتاريخ يحمل بين طياته الكثير من علاقة مازالت ترفض أن فك الاشتباك منذ أن بدأت قبائل الأوغوز التركية هجرتها صوب الأناضول في القرن الحادي عشر الميلادي ثم بعد ذلك تمدد القبيلة بعد التحامات ومعارك مع البيزنطيين وصولا إلى فتح القسطنطينية عام 1453 للميلاد، على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.

ثم جاء التمدد التركي العثماني في داخل أوروبا لقرون متواصلة، بعد أن امتدت الدولة العثمانية وتوسعت شرقا وغربا حتى وصلت إلى النمسا قبل أن تبدأ بفقدان أجزاء من أوروبا التي خضعت إلى سيطرتها لسنين خلت.

وبقيت العلاقة بين تركيا العثمانية وأوروبا بين شد وجذب، حروب هنا وأخرى هناك، مؤامرات ودسائس، خصام وعداء وتحالفات وقتية، حتى إذا ما جاءت الحرب العالمية الأولى عام 1914 التي شاركت بها بريطانيا وفرنسا وروسيا ضد تحالف الدولة العثمانية وألمانيا والنمسا والمجر، حرب غيرت مصير دول وألغت أخرى واستحدثت ثالثة، لتنتهي الدولة العثمانية مقسمة بين ما أخذته بريطانيا وما أخذته فرنسا، قبل أن تطأ جيوشهما إسطنبول وتخضع بقايا الدولة العثمانية لمشرط جراح التقسيم والشروط الذي أختار أن يرسم لتركيا حدودها ونظامها الجديد في الحكم ويكبلها بقيود المعاهدات التي فرضها المنتصر، من فرساي إلى لوزان.

بقيت تركيا الجديدة، وفية للغرب الذي أرادها له، كما بقي الغرب وفيا لتركيا، فكان أن دخلت في حلف الناتو الذي تأسس عام 1949 ، وبقي الغرب يراقب ديمقراطية تركيا الناشئة ليس من أجل أن تحافظ على مسارها وإنما حتى تبقى تركيا التي يريدها الغرب، فكان أن تم الانقلاب على هذه الديمقراطية من قبل العسكر بعد أول انتخابات جاءت بعدنان مندريس أول رئيس وزراء منتخب في تركيا الجمهورية، كان ذلك عام 1960 ليرسل ذلك رسالة مفادها أن كل من يخرج على تعاليم جمهورية تركيا الحديثة ومفاهيم علمانيتها لن يكون مكانه سوى حبل المشنقة.

لتتوالى بعد ذلك صفحات من الانقلابات في تاريخ تركيا ضد كل ما يهدد علمانيتها وهويتها التي أرادها الغرب لها، حتى إذا ما دخلنا في مطلع القرن الحادي والعشرين وصعد نجم العدالة والتنمية في أول انتخابات برلمانية يخوضها، دخلنا مرحلة جديدة من التعامل الغربي مع تركيا.

الإعلام الغربي… من فقأ عين الحقيقة؟

تعامل الإعلام الغربي بازدواجية مع مختلف القضايا في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، ليس بالضرورة نابعا من توجهات مسبقة أو سياسات مؤدلجة، وإنما قد يكون نابعا من مساحة الحرية التي يوفرها هذا الإعلام لمختلف الآراء.

ذلك صحيح، ولكنها صحة نسبية، لا ينبغي لنا أن نسلم بها على الدوام، فلقد شاهدنا كيف تعامل هذا الإعلام مع قضايانا العربية ابتداءً بقضية فلسطين، يوم أن وقف بكليته خلف العصابات الصهيونية، حتى إذا ما مرر موقفا لكاتب هنا أو آخر هناك ضد دولة الكيان، احتفلنا به وكأن الإعلام الغربي تعامل معنا بإنصاف.

في حرب فيتنام، كان الإعلام الأمريكي على وجه التحديد رافضا للحرب، رفض لم ينبع في غالب الأحيان من موقف أخلاقي قدر ما سببته تلك الحرب من استنزاف للطاقات الأمريكية حتى تم تسريب وثائق دراسة أعدها أحد العاملين في وزارة الدفاع الأمريكية بين فيها أن رؤساء الولايات المتحدة كانوا يتعمدون تضليل الرأي العام الأمريكي بخصوص حرب فيتنام، تلك الوثائق التي أشعلت فتيل أزمة بين الصحافة والحكومة الأمريكية آنذاك وصلت إلى المحاكم، لتبدأ بعدها صفحة إعلام أمريكي معارض لحرب بلاده على فيتنام أدى إلى انسحاب القوات الأمريكية من هناك.

من هنا يمكن القول إن الإعلام الغربي ليس منزّها، وليس كل ما ينشره نابع من مهنية أو موضوعية أو حرية إعلام، بقدر ما يكون في كثير من الأحيان، نابعاً من مصالح، وأجندات، وحتى رغائب وأيدولوجيات مختلفة.

وهنا، علينا مرة أخرى، التفريق بين ما يكتبه أصحاب مقالات الرأي وبين المادة الإخبارية، فكما قيل قديما، ويفترض أنه جديد وسيبقى هكذا، أن الخبر مقدس والرأي حر.

ولكن ما جرى في تعامل الإعلام الغربي مع الانتخابات التركية تجاوز سقف حرية الرأي وسقف المقالات التي مع أو ضد.

لقد وصل الأمر ببعض الصحف الغربية إلى التلويح بسنوات سوداء في تركيا إذا ما فاز أردوغان، بينما قالت أخرى إن فوز أردوغان سيعني دخول تركيا عصر الاستبداد، ولوحت أخرى بتهديدات اقتصادية قد يفرضها الغرب على تركيا في حال فاز أردوغان.

وفي هذا السياق جاء المقال الذي كتبه جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق في صحيفة وول ستريت جورنال، الأكثر وضوحاً، حيث ادعى بولتون أن الناتو سيطرد تركيا في حال حصول فوز آخر للرئيس أردوغان وحث القراء على دعم المعارضة.

بالمقابل، كانت الصحف الغربية تبشر الأتراك بعهد جديد مع مرشح المعارضة كمال كليشدار أوغلو، حيث إنه سيكون أقرب إلى الغرب وسيتمتع بدعم غربي كامل يمكن أن يسهم في انتشال تركيا من أزمتها الاقتصادية.

لكن لماذا هذا العداء الذي أظهرته وسائل إعلام غربية لأردوغان؟ وعندما نقول عداء هنا فنحن لا نشير إلى مقالات الرأي التي تعبر في الغالب عن وجهة نظر كتابها، وإنما نتحدث عن مواد إخبارية وتقارير صحفية يفترض أنها تقترب من الموضوعية أكثر.

وعندما نتحدث عن عداء لأردوغان فإننا نتساءل أيضا، لماذا لم تحظ الانتخابات التشريعية التي جرت بالتزامن مع انتخابات الرئاسة التركية في جولتها الأولى، بالاهتمام ذاته الذي حظيت به الانتخابات الرئاسية، علما أن حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان كان حاضرا بقوة في تلك الانتخابات وفاز تحالفه بالعدد الأكبر من مقاعد البرلمان.

ويبدو أن الأمر نابع أيضا من موقف تجاه شخص الرئيس التركي، وأيضا طبيعة النظام الجمهوري في تركيا والذي منح الرئيس صلاحيات واسعة مقابل سلطات البرلمان.

في مقال تحليلي بصحيفة الواشنطن بوست، يقول الكاتب بوبي غوش معرفا الأسباب التي جعلت من انتخابات تركيا تتمتع بكل هذا الاهتمام من قبل الدول الغربية وإعلامها، إن هذه الانتخابات تتمتع بأهمية عالميا من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية وخاصة الدول الغربية التي من خلالها سوف تتشكل وتتموضع الحسابات الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية في روسيا وأوروبا والشرق الأوسط وآسيا.

ويضيف غوش، أن بقاء الرئيس رجب طيب أردوغان في السلطة لفترة طويلة، جعل لأنقرة تأثيرا ذا مكانة كبيرة في الشؤون العالمية، وأن الغرب سيكون سعيدا لو حدث تغيير في السلطة خاصة في ظل التوترات الأخيرة بين تركيا والاتحاد الأوروبي من جهة وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية من  جهة أخرى على خلفية منظومة صواريخ أس 400 وقضية اللاجئين ومسألة عضوية السويد في الاتحاد الأوروبي.

وإضافة إلى ما تحدث به غوش، فإن من يعرف تركيا قبل عهد العدالة والتنمية لا يكاد يعرفها بعد عهد العدالة والتنمية، وهو ما يدركه الغرب بشكل جيد، تركيا الضعيفة المنهكة المثقلة بالديون، التابعة لسياسات الاتحاد الأوروبي، غير تلك التي ظهرت مع بدايات القرن الحادي والعشرين، تركيا العدالة والتنمية، تركيا أردوغان الذي نجح في أن يحدث لها مكانا على خارطة العالم ويصبح لاعباً مؤثرا، تطورات تقلق أوروبا، القارة التي تشيخ ديمقراطيتها بينما تزداد ديمقراطية تركيا شباباً.

أكثر من ذلك، تحولت تركيا إلى مركز ثقل عالمي، ونجحت في إحداث توازنات فرضتها متغيرات إقليمية، فمنذ حرب احتلال العراق والمنطقة تتغير بشكل كبير، تناقضات وفراغات شكلتها أسباب عدة، وجد فيها أردوغان فرصته في أن يتمدد ويفرض نفسه لاعبا دوليا وليس إقليميا فقط، لاعب تحول خلال فترة وجيزة إلى حاجة للقوى الغربية بعد أن نسج علاقات متشابكة بين تناقضات منطقة وعالم يغرق فيها كل يوم.

أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الخارج من رحم حزب الرفاه ذي التوجهات الإسلامية والذي تم حله والانقلاب على زعيمه نجم الدين أربكان، من قبل الجيش عام 1997 ، أدرك مبكرا أن لعبة التوازنات هي الوحيدة القادرة على أن توصله لتحقيق ما يريد، فكانت هذه البراغماتية في التعامل أحد أهم أسباب الخلاف مع معلمه أربكان، فصعد نجم الزعيم الشاب سريعا بعد أن فاز حزبه ، العدالة والتنمية في انتخابات 2001 ، ومعها بدأ ينسج شبكة علاقات معقدة، فكان حليفا لأمريكا ولم يظهر عداءً لإسرائيل بل ذهب إلى زيارة تل أبيب، ويمم وجهه صوب العالم العربي، وتمدد في مساحات الجغرافيا التركية عبر الجمهوريات المتعددة في آسيا، ولم يكن في الوقت ذاته عدواً لأوروبا التقليدية، بل سعى جاهدا إلى أن يستجيب لمتطلبات وشروط الاتحاد الأوروبي من أجل انضمام تركيا.

رغم هذه العلاقات المعقدة والتعددية في التعامل بكل أريحية مع الجميع، إلا أنها كثيرا ما كان مشاكسا في تعامله مع العديد من القضايا المعقدة، لتبرز مرحلة أخرى من مراحل حكم أردوغان، وهي المرحلة التي أظهر فيها قدرا كبيرا من استقلالية تركيا، ليتحول إلى زعيم مستبد، قامع للحريات، يسجن معارضيه، يضيق على الإعلام، يمنع المثلية، ويحارب مظاهر العلمانية التركية.

هذه بعض المبررات التي ساقتها وسائل الإعلام الغربية في سياق حملتها ضد أردوغان، ولكن هل هذا كل شيء؟

تنقل نايلا وفيق الباحثة في الشؤون الدبلوماسية في مقال لها في مجلة الدبلوماسية الحديثة عن كريستوف هست رستل الباحث في شؤون الشرق الأوسط قوله، إن خلاف وسائل الإعلام الغربية تجاه أردوغان مدفوع بالكارتلات العالمية التي تعارض تدخله في أجندتها، لا سيما في مجال حقوق الإنسان والهجرة وغيرها من أشكال التعاون، علاوة على ذلك، يشعر كريستوف أن روايات وسائل الإعلام الغربية المتحيزة تتدخل في العملية الديمقراطية في تركيا والجهود المبذولة للتأثير على نتائج الانتخابات من خلال تشكيل الرأي العام.

بقي غلاف مجلة ذي إيكونوميست البريطانية قبل الانتخابات التركية مايو 2023، واحداً من أكثر العناوين التي ربما ستبرز دور الإعلام الغربي وتعاطيه مع مختلف القضايا العالمية، فالمجلة التي تعتبر من المجلات الرصينة ويعود تاريخ تأسيسها إلى العام 1843، لم تتوان عن وضع غلاف عددها بصورة للرئيس التركي واصفة إياه بالديكتاتور بل ووصل بها الأمر إلى تغيير صورة حسابها على مواقع التواصل الاجتماعي بغلاف المجلة، حيث قالت إنه يجب أن يرحل وإن سقوط أردوغان سيكون له تداعيات عظيمة على العالم.

وطبعا هنا نحن لا نحاكم الإعلام على ما يكتب، ولكن ما يهمنا هو كيف تحول سلاح الإعلام وحريته إلى سلاح بيد مصالح سياسية واقتصادية وحتى أيدلوجية؟

تناول الإعلام الغربي الانتخابات التركية من زوايا ضيقة، ولكن ما كان يجمع هذا الإعلام هو ألا يرى أردوغان رئيسا لدورة انتخابية جديدة مدتها خمس سنوات، فعلى سبيل المثال ترى أسبوعية لو جورنال دوديمونش الفرنسية أن انتخابات تركيا يمكن أن تنهي حكم أردوغان الذي مثل الإسلام السياسي على أبواب أوروبا لما يقرب ربع قرن من الزمن، بينما لا تتوانى صحف أمريكية وأخرى أوروبية بالحديث عن ديكتاتور تركيا الذي تصفه بالمستبد.

المشكلة أن الإعلام الغربي وقع في فخ تناقضات كبيرة، فهو يدعي حرصه على حرية التعبير ويدعي أنه يعبر عن أعلى مستويات الإنسانية، ومع ذلك قبلَ على نفسه أن يقف ويدعم بكل فجاجة مرشح المعارضة كمال كليشدار أوغلو الذي وعد في حملته الانتخابية بإعادة كل اللاجئين وعلى رأسهم السوريون، بينما تمنع قوانين الاتحاد الأوروبي إعادة أي لاجئ بشكل قسري.

كما أن الإعلام الغربي الذي كان ينتقد استبداد أردوغان بسبب طول فترة حكمه، نسى أو تناسى أن أردوغان إنما بقي في منصبه سواء كرئيس للوزراء أو كرئيس للجمهورية عبر ممارسات ديمقراطية بحتة، بل إن نسب المشاركة في الانتخابات التركية في كل الانتخابات التي شارك بها أردوغان، كانت مرتفعة جدا، وفاقت الكثير من الديمقراطيات الغربية العريقة.

المؤكد أن الإعلام الغربي ، ومن خلال متابعته للانتخابات التركية طيلة أشهر، كان يحاول التأثير على الناخب التركي، فهذا الإعلام الذي يمثل إمبراطوريات مالية كبرى، ناهيك عن إعلام مؤدلج، يعاني من وجود شخصية مثل الرئيس التركي أردوغان، فمعلوم أن الرئيس التركي تدخل بشكل مباشر في صياغة السياسة المالية للدولة، كما أنه شخصية مؤدلجة نجح خلال عشرين عاما بمصالحة تركيا الشعب مع هويتها الإسلامية بعد عقود من القطيعة التي اتخذتها السياسات السابقة سلاحها المسلط على رقاب كل من يظهر ملامح تدينه الإسلامي ولو باللباس والمظهر.

الصراع بين تركيا الأردوغانية وبين العالم الغربي لم ينته مع نهاية الانتخابات التركية، هناك جولة أخرى ستمتد لسنوات خمس مقبلة، جولة سيكون فيها الإعلام سلاحا، وهو ما يدركه أردوغان وحزبه، رغم أن الكثير من المراقبين يعتقدون أنه نجا من الأصعب، إلا أن القرن التركي الجديد الذي بشر به أردوغان سيكون مزعجا لعالم جديد يتشكل وتحالفات تتكون وسيكون صعوداً جديداً لدول قديمة وانكفاء لدول جديدة.

Leave a Comment